روائع مختارة | روضة الدعاة | تاريخ وحضارة | تحرير القدس.. والمشروع الحضاري الإسلامي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > تاريخ وحضارة > تحرير القدس.. والمشروع الحضاري الإسلامي


  تحرير القدس.. والمشروع الحضاري الإسلامي
     عدد مرات المشاهدة: 3252        عدد مرات الإرسال: 0

تحرير القدستحتل القدس مكانة مهمة في الإسلام، عقيدة وحضارة وثقافة وتاريخًا؛ لذلك كان تحريرها من الاحتلال الروماني مرحلة مهمة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

وفي تطور المشروع الإسلامي لتحرير البشرية.
 
في ضوء ذلك يمكن أن نفهم دلالات أحداث معينة، وندرك رموزها ونفسرها، فعمر بن الخطاب قام بعزل خالد بن الوليد وتولية "أبو عبيدة عامر بن الجراح" ليكمل مهمَّة الفتح!
 
وحار المؤرخون في تفسير هذا القرار.. لكننا يمكن أن نفهم الآن دلالات جديدة ومهمة؛ ذلك أن تحرير القدس ليس مجرد عمل عسكري.

وهذه المعركة ليست معركة جيوش وأسلحة وبطولات وتضحيات فقط، ولكنها مرحلة ضرورية لبناء الحضارة الإسلامية، وسيادة المشروع الحضاري الإسلامي.
 
لذلك فمع كل التقدير والاحترام والاعتزاز ببطولات خالد وقدرته العسكرية المتميزة، إلا أن تلك المعركة كان لا بُدَّ أن يقودها فقيه وعالم وأمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح.
 
لقد كان أبو عبيدة هو خير من يمثل المشروع الحضاري الإسلامي بكل جوانبه.

وليس من الجانب العسكري فقط؛ لذلك كان لا بد أن يعود القائد العسكري مع الاعتراف بكفاءته ليكون جنديًّا، وليتقدم أمين الأمة ليقود المعركة دليلًا على أهمية القدس، وتوجيهًا للأمة؛ لكي تظل القدس دائمًا في قلب مشروعها الحضاري.
 
فهي لا يمكن أن تبني النهضة وتحقق التقدم، وتحمي الحرية، وتقوم بوظيفتها الإنسانية والحضارية إلا إذا كانت القدس محررة، يحميها الإسلام كمدينةٍ لها دور حضاري عالمي.
 
كما أن تحرير القدس شرف للأمة، وبرهان على تميزها الحضاري وقوتها الأخلاقية، وأنها صاحبة رسالة وأمينة على قصص الأنبياء وتاريخهم وتراثهم، وعلى عقيدة التوحيد باعتبارها رسالة جميع الأنبياء.
 
لا تخضع لظالم

لذلك فإن تحرير القدس ليس عملًا عسكريًّا فقط، ولكنه الإسلام يتقدم بعقيدته وحضارته ليحرر القدس؛ لأنها لا يجوز أن تخضع لظالم فاسق لا يعرف قيمتها وأهميتها، بل يجب أن تظل دائمًا تحت حكم الإٍسلام، وفي حمايته؛ لأنه يعرف قيمتها وأهميتها الحضارية.
 
وكان لا بد أن يتقدم الفقيه العالم الذي يمثل المشروع الحضاري الإسلامي ليقود المعركة.. وكان لا بد أن يأتي أمير المؤمنين خليفة خليفة رسول الله ليتسلم مفاتيح القدس بنفسه، وليعقد المعاهدة مع سكانها من النصارى، وليؤكد حماية الإسلام لهم، ولتكون قيادة عملية الفتح لأمير المؤمنين.
 
وبعد أن فتح المسلمون القدس، وقف هذا الجيش الفاتح وعلى رأسه عمر وأبو عبيدة وخالد بن الوليد وأصحاب رسول الله يأكلون كسرات من الخبز ويبكون.. لماذا؟!
 
يمكننا أن نفهم سر البكاء؛ فالفرح بهذا النصر العظيم والشعور بالشرف والفخر للمشاركة فيه يفجر المشاعر الإنسانية.
 
لكنه أيضًا يمكن أن يكون إشارة إلى خوف هؤلاء الجنود على إنجازهم العظيم، وشعورهم بأن القدس لا بد أن تكون محور الحرب المستمرة بين الإسلام والكفر إلى نهاية الدنيا، وأنه قد تأتي أجيال من المسلمين لا تفهم الإسلام، وتغفل عن المشروع الحضاري للأمة فتضيع القدس، ويعود الظالمون الكافرون الذين غضب الله عليهم للسيطرة عليها.
 
ومن هنا يمكن أن نفهم دلالات الطعام الخشن الذي اكتفى الجنود بأكله يوم نصرهم العظيم. إنها إشارة واضحة إلى أن الذين حرروا القدس قد حرروا أنفسهم أولًا من الهوى وطلب المتع الدنيوية وأنهم عباد الله فقط، ولا يمكن أن يكونوا عبيدًا للدنيا. وربما يكون هذا هو الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من ذلك الموقف.
 
فعبيد الدنيا لا يمكن أن يحرروا القدس، إنهم يمكن أن يتفاوضوا بشكل مباشر أو غير مباشر لسنوات طويلة؛ حفاظًا على ما أصابوه من متاع الدنيا. لكن الذين يحررون القدس هم الذين يحررون أنفسهم من العبودية للدنيا بكل ما فيها من مال وسلطة ومتع زائلة، وأنهم يعتزون بأنهم عباد الله.
 
في ضوء ذلك يمكن أن نفسر كيف صمد أهل غزة طوال تلك السنوات في مواجهة الحصار الظالم، وقاوموا آلام الجوع والحرمان؛ ليثبتوا أنهم لا يمكن أن يكونوا عبيدًا للدنيا، وأنهم بذلك يؤهِّلون أنفسهم لتحرير القدس.
 
ليطمئن قلب عمر

وللبرهنة على صحة ذلك طلب عمر بن الخطاب t بعد الفتح من قائد المعركة أمين الأمة أن يذهب به إلى بيته.. وعندما دخل عمر البيت اطمأنَّ قلبه فلم يجد شيئًا من متاع الدنيا، وجد البيت خاليًا من كل مظاهر الثراء والأبهة. وقال عمر برضا وسعادة: هكذا العهد بك يا أبا عبيدة!!
 
والعبارة تشير إلى أن عمر كان يعرف جيدًا أبا عبيدة، ويتوقع ما رآه في بيته، فلماذا أراد أن يرى البيت؟!
 
ربما يكون ذلك من تداعيات الموقف.. فلقد ذهب أبو عبيدة ليستقبل عمر، فرآه يلبس ثوبًا خشنًا، ويشمره، وهو يعبر بركةً من ماء بينما غلامه يركب الناقة، فقد جاء دوره في الركوب.
 
عندئذٍ خاف أبو عبيدة من أن ينظر سكان القدس من النصارى إلى أمير المؤمنين بما لا يليق بمكانته، فأراد أن يتخذ عمر مركبًا ولباسًا يتناسب مع أهميته.. وهنا يتوقف عمر ويقول بحسمٍ: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
 
لذلك خاف عمر من أن يكون حب الدنيا قد تسلل إلى قلب أبي عبيدة، وأنه أراد أن يحصل على نصيبه المشروع من متعها الحلال.
 
ولكن أليس من حق قائد جيش تحرير القدس أن يأكل لقمة طيبة، وينام على فراش لين؟ إنها متع حلال، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فلماذا يتصرف عمر مع أبي عبيدة بهذا الأسلوب؟
 
لم يكن عمر يريد أن يحرم أبا عبيدة من التمتع بما أحل الله، لكنه كان يريد أن يتأكد من أن القائد الذي اختاره لتحرير القدس لم يركن للدنيا، وأن حب المظاهر والمتع الدنيوية لم تعرف الطريق إلى قلبه، وأن العبودية لله ما زالت هي مصدر عزته وفخره، وأن العمل لإرضاء الله ما زال هو هدفه الوحيد.

وأنه ما زال يمثل المشروع الحضاري الإسلامي الذي يستهدف تحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وأن الوظيفة الحضارية للمسلم ما زالت واضحة في نفسه.
 
طريق التحرير

لذلك فإن الذين يمكن أن يحرروا القدس مرة أخرى هم الذين يعيدون بناء أنفسهم بالإسلام؛ ليكونوا مثل أولئك الجنود الذين وقفوا بعد النصر يأكلون خبزهم الخشن، ويبكون فرحًا وحمدًا وشكرًا لله.
 
الذين يمكن أن يحرروا القدس هم الذين يحررون أنفسهم من العبودية للدنيا، فلا يكون هدفهم الحصول على متعة دنيوية ولا يأبهون لمظاهرها، ولا يريدون ترفها، ولكنها يعمرونها عبادة لله.
 
تحرير القدس لا يمكن أن يتحقق إلا بمشروع حضاري إسلامي يعيد للأمة وظيفتها الحضارية والإنسانية؛ فوضوح هذه الوظيفة هو البداية الحقيقية لهذا المشروع، فالأمة بشكل عام لا بد أن تعي وتفهم وتدرك وتعتز بوظيفتها، وكل مسلم لا بد أن يعبر عن اعتزازه بالانتماء للأمة بالتمسك بهذه الوظيفة، وأن تكون الهدف الرئيس لحياته.
 
ومن خلال إدراكه لهذه الوظيفة يحدد أهدافه في الحياة، فهو لا يعيش ليكنز المال، وليكون حارسًا عليه، ولا يحرص على متع الدنيا، فهو يعرف أنه قد جاء الحياة ليؤدي رسالة وليقوم بوظيفة، وليعبد الله ويعمر الأرض عبادة لله، والحياة قصيرة مهما طالت؛ فعمر أطول إنسان معمِّر في هذا العصر لا يزيد على مائة عام.
 
وعندما يطول عمر الإنسان تتكاثر الأمراض، ويضعف الجسد، فلماذا ينسى الإنسان رسالته ووظيفته وهدفه الرئيس وهو إرضاء الله ليحصل على متعة محدودة؟!
 
كثير هم الذين استعبدتهم الدنيا فكنزوا من الأموال ما لا يستطيعون أن يحصوه أو يتمتعوا به، وجعلوا من أنفسهم حراسًا على هذا المال، وتركوا إخوانهم في غزة يتضورون جوعًا.
 
وعبيد الدنيا بنوا العمارات الشاهقة والقصور الفارهة، لكن حياتهم تمضي بدون معنى أو هدف، وسيخرجون منها، والأحياء يذكرونهم بكل سوء، والويل لهم من عقاب الله. تُرى ما فائدة كل ما كنزوه من مال، وما تركوه من أصول؟
 
والكثير من عبيد الدنيا فقدوا أموالهم في الأزمة الاقتصادية؛ لأنهم تركوها مكدسة في بنوك ربوية أقرضتها بفوائد عالية لمن عجزوا في النهاية عن السداد، وهذا عقاب الله I في الدنيا.
 
والذين شاركوا في فرض الحصار على إخوانهم في غزة إرضاء لأمريكا التي تحمي سلطتهم وأموالهم، سيفقدون الدنيا بعد أن فقدوا هدف الحياة، وسيبتليهم الله بالحزن على ما فقدوه من ثروات.
 
لذلك فإن أول ما يجب أن يتضمنه المشروع الحضاري الإسلامي هو إعادة الوعي لكل مسلم بوظيفته الحضارية، وبهدف حياته.
 
الطريق إلى تحرير القدس يبدأ بتحرير الإنسان من العبودية للهوى والدنيا وللطواغيت ليكون عبدًا لله وحده، ويعمر الأرض عبادةً لله، ويساهم في تحرير البشرية من الزيف والضلال.
 
و"إسرائيل" تعرف جيدًا أن المسلمين سيحررون القدس، ولكن عندما يعودون للاعتزاز بوظيفتهم الحضارية، وعندما يشكل الإسلام حياتهم، وعندما يصبح هدف كل مسلم في حياته هو إرضاء الله، وعندما يكون لهم قادة لا يوجد في بيوتهم من متع الحياة سوى ما يسد الرمق.
 
وعندما يكون لهم جنود مثل أولئك الذين فتحوا القدس ووقفوا على مشارفها يأكلون خبزهم الخشن ويبكون، وعندما يكون لهم قائد يعتز بالإسلام فقط ولا يبتغي العزة في غيره.
 
"إسرائيل" تدرك أن المسلمين سيحررون القدس عندما يعودون لمشروعهم الحضاري الذي يهدف إلى تحرير الإنسانية من العبودية لغير الله، وإعمار الأرض عبادة لله، ولا يعتزون إلا بالانتماء للإسلام، ويتفاخرون بأنهم مسلمون، ويحبون حياتهم فقط من أجل تحرير القدس.
 
و"إسرائيل" تدرك تمامًا أنه سيأتي ذلك اليوم الذي لن يجد فيه المسلمون ملاذًا سوى الإسلام، وأنهم سيبنون مشروعهم الحضاري الإسلامي الذي يكون أهم أهدافه تحرير القدس.
 
 
الكاتب: د. سليمان صالح

المصدر: جريدة الشرق القطرية، بتاريخ 2-4-2010م